أ.د أيمن تعيـــــــــلب أستاذ - TopicsExpress



          

أ.د أيمن تعيـــــــــلب أستاذ اللغويات بكلية الألهيات ــ جامعة أولوداغ ـ بورصة ـ الجمهورية التركية إعادة بناء مفهوم العقل بين الغزالى وابن رشد في ضوء الفلسفات المعاصرة هذه الدراسة نشرت بمجلة جامعة أولوداغ عام 2010 يشرفنى أن أنشر هذه الدراسة على جزئين ربما ننتفع بها معا فمازلت ناقضا بنفسى مكتملا بغيرى فما تكتمل أفكارى إلا بالآخرين الذين هم ذاتى الحوارية الخصيبة لقد جرت العادة الفكرية والإسلامية لدى المفكرين العرب القدامى والمحدثين معا، أن يقيموا السدود والحدود بين قلب الغزالي وعقل ابن رشد،وبعضهم ردد أن الغزالي قد قضى على العقل الفلسفي الإسلامي،وبعضهم نادي بضرورة الإفادة من عقلانية ابن رشد وغض البصر الفكري عن صوفية الغزلي التي غيبت العقل الإسلامي وشطحت به صوب المثاليات المتعاليات التي لا تفيد كثيرا في بناء الواقع الإسلامي المعاصر،وظل هذا (الفصام المعرفى النكد) بين قلب الغزالي وعقل ابن رشد قائما في الثقافة العربية الإسلامية لقرون طويلة حتى اللحظة الحضارية المعاصرة،ولكننا نظن الحقيقة على غير ما تصوره المفكرون العرب القدامى والمعاصرون، فالتصورات الفلسفية العالمية المعاصرة تبين لنا أن عقل ابن رشد وقلب الغزالي كليهما ضروري وأساسي في البحث عن الحقيقة الدنيوية والأخروية معا، فليس الغيب هو الغيب الديني فقط، بل هناك الغيب المادي الواقعي الذى يتكنفنا من كل جانب على المستوى المعرفى والعقلى والتجريبى والمنطقى والرياضى والتخييلى،لقد اتسع العالم بعد أن ارتفع الحد الصارم الذى أقامه الفلاسفة والمناطقة القدامى والمعاصرون للقضايا: والتى صنفوها تحت قطبين لا ثالث لهما وهما (إما أن تكون القضية صادقة وإما أن تكون كاذبة)،لكن المناطقة والفلاسفة الجدد أدخلونا إلى حد ثالث وهو (وإما أن تكون غير مفهومة ولكنها قائمة موجودة قائمة )، وهو ما يطلق عليه فى الفكر الفلسفى المعاصر (بمنطق الفئات الغائمة)) والذى يحلو أن نترجمه بـ ((بالمنطق البينى الغائم) الذى يعيش فى مناطق اللاتحدد المعرفى والتشوش واللادقة التى أصبحت حدودا تأسيسية فى بنية الفلسفة والعلم التجريبى المعاصر. لقد صار (المنطق الغائم) " fuzzy logic فتحا معرفيا ومنطقيا جديدا لإعادة بناء مفاهيم الإدراك والوعي والتعقل واللغة وعلاقتها بقوة الحدس والافتراض والتخييل أى قوة منطق الوجدان إلى جوار منطق العقل،ولقد استطاع المنطق الغائم أن ينقذ المناطقة والفلاسفة المحدثين من وهمية التناقضات المعرفية،ولا سببية الفجوات المنطقية، وإعادة بناء منطق جديد للعقل والعقلانية واللغة خارج الحدود العقلانية الضيقة، والتصورات الكلية الوهمية،وقد قاد المنطق الرمادي الغائم المناطقة إلى الأخذ بتصورات قيمية أخرى مثل منطق: ممكن possible ، ومستحيل impossible ، وحادث contingent، وضروري necessary، فمثل هذه التصورات يمكن أن ننسبها للقضايا التي ليست صادقة أو كاذبة كما شاع لدى الوضعية المنطقية بكل صورها القديمة والجديدة،.بما يدخلنا إلى عالم جديد من المنطق ثلاثى القيم، أو قل "المنطق متعدد القيم" many-valued logic كما أبان عنه لوكاشيفتش. وكثير من المناطقة والفلاسفة المعاصرين،فالقضايا إما أن تكون كاذبة أو صادقة أو غير محددة أيضا ولكنا موجودة بالفعل لاندرك مسارها المادى بدقة بل بطريق تقريبية ظنية إحصائية،فالإحصاء هنا ليس طريقة علمية ندرك بها الواقع والمادة والعالم بل العالم نفسه إحصائى لانستطيع تكميم جموحه فى قنوات عقلانية منضبطة بصورة مطلقة،بل الممكن فقط هو أن نقول ((إذا حدث كذا فمن الممكن أن يحدث كذا وبنسبة كذا))،هذا هو المتح فقط،ذلك أن تصوراتنا العقلانية والعلمية والمنطقية عن الواقع والمادة والعالم لاتسيطر على مانعرفه ولا على مانظن أننا نعرفه بل على ((فهمنا)) لما نظن أننا نعرفه،وبذلك يتساوى عندنا الوعى بالعلم مع القدرة على الوعى بالجهل فى إدراك العالم والعلم والواقع،ولقد تطورت العلوم والفلسفات حتى وصلنا إلى هذه التصورات المعرفية والإدراكية الجديدة، ولنا أن نقرر هنا بأن الفيلسوف اللأمريكي (ويلارد فان أورمان كواين Quine (2000- 1908)) هو الذي قاد هذه التصورات المنطقية والفلسفية الجديدة قيادة معرفية خلاقة ففتح بذلك مجالات إدراكية جديدة لمفاهيم الحقيقة والتعقل والإدراك والوعى والواقع والتصور،ولقد تم ذلك حين كتب مقالاً بعنوان "(عقيدتان جامدتان من عقائد المذهب التجريبي)Two Dogmas of Empiricism، معارضا بذلك قضايا (المنطق ثنائى القيم) الذي يقتصر فقط على قيمتي الصدق والكذب فى القضايا ويبين ويلارد فان كواين الصعوبات أو بالأحرى التناقضات التي واجهت هذا المنطق التقليدى فى اقتصاره على هاتين القيمتين،ويبين ذلك الدكتور محمد السيد على لسان كواين قائلا: ((ويمثل هذا المقال ـ الذى كتبه كواين آنفا ـ البداية الحقيقية لانهيار المدرسة الوضعية المنطقية. اعترض "كواين" في هذا المقال على اعتقادين كان يسلم بهما معظم الفلاسفة منذ أفلاطون وأرسطو وحتى "كارناب" وبوبـر. يتلخص الاعتقاد الأول في القول بوجود تمييز واضح قاطع بين نوعين من القضايا يطلق عليهما القضايا التحليلية والقضايا التركيبية، أي بين القضايا الضرورية من قبيل قضايا الرياضيات وتحصيل الحاصل من جهة وقضايا العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية من جهة أخرى والتي يمكن تكذيبها من خلال الملاحظات والتجارب. وقد أجمع الفلاسفة على أن القضايا التحليلية لا تخبرنا بشيء عن الواقع الخارجي، ومن ثم فنحن لا نحتاج فى إثبات صدقها أو كذبها إلى الاستشهاد بأدلة مستمدة من ذلك الواقع. فالقضية القائلة 2 + 2 = 4 تصدق من خلال معاني الألفاظ الداخلة في تركيبها دون العودة إلى الواقع الخارجي، وينطبق نفس القول على بعض قضايا اللغة التي تستخدم المترادفات للتعبير عن نفس القضايا من قبيل قولنا "الشخص الأعزب هو الشخص غير المتزوج"، فمثل هذه القضايا تكتسب قيم صدقها أيضا من خلال معاني الكلمات المكونة لها. اعترض "كواين" على هذا التمييز وساق عدة حجج منطقية دلل بها على عدم دقة هذا الرأي، واقترح بدلا من هذه الثنائية القديمة العقيمة بين الحقائق الضرورية من جهة وقضايا العلوم الاجتماعية والطبيعية من جهة أخرى، سلسلة متدرجة من الاعتقادات تقترب من الاعتقادات التى يفترضها الباحثون في العلوم الفيزيائية. فاعتقاداتنا المعرفية، فى رأيه، ليست سوى شبكة متداخلة من العلاقات التى تتقاطع مع غيرها، وهو ما أصطلح النقاد عل تسميته بالنزعة الكلية Holism الفارق بين هذين النوعين من القضايا، فى رأيه، يكمن فقط فى درجة قبولنا لها من الناحية البرجماتية، وليس المنطقية،أما الاعتقاد الثاني: الذي انتقده "كواين" فهو ذلك الذى يطلق عليه اسم النزعة الردّية reductionism والذي كان يمثل حجر الزاوية في فلسفة الوضعيين المنطقيين حيث استندوا إليه في الاستدلال بأن قضايا الدين والأخلاق لا معنى لها من الناحية المعرفية cognitively meaningless. يتلخص هذا الاعتقاد في القول بأن كل قضية يمكن، بمعزل عن القضايا الأخرى، أن تقبل التأييد أو التفنيد. وقد ساق كواين عدة حجج يدلل بها على عدم صحة هذا الرأى وبعدم وجود مبرر منطقي يبرهن على إمكان مقارنة القضايا الجزئية بالخبرة الحسية، فكل خبرة جديدة قد تعدل من منظومة أفكارنا. لقد حث "كواين" الفلاسفة على أن يكفوا عن البحث عن طلب الحقائق اليقينية، وأن يكتفوا بدلا من ذلك بمحاولة العثور على طرق جديدة لتنظيم المادة التي يقدمها العلم الطبيعي،وكتب فى ذلك مقالا ثوريا عام 1969 بعنوان "الابستميولوجيا مطبعة " Epistemology Naturalized قدم فيه تصوراً مستقبلياً يمكن فيه تطبيع نظرية المعرفة، أي دراستها في إطار من العلوم المعرفية، والكف عن دراستها بالطرق التأملية البالية. ولا عجب في ذلك، فقد سلم "كواين" منذ بداية دراسته للمنطق والفلسفة بأن لغة المنطق والعلوم الفيزيائية هي اللغة المناسبة للفلسفة، بل هي الوحيدة التي يمكن أن تكشف لنا عما أسماه "البنية الحقيقية العليا للواقع"...... ولقد اهتم "كواين" بفلسفة اللغة وعلاقتها بالإنسان والواقع، حيث كان يرى صعوبة أو استحالة ترجمة المصطلحات من لغة إلى أخرى (على الرغم من إجادته ست لغات كتابة وتحدثاً)، فالكلمات ليست سوى استجابات سلوكية لا تنفصل عن الثقافة التي تستخدم فيها، ونحن حين نتعلم لغة جديدة، بل وحتى حين نتعلم لغتنا الأم الأصلية، لا نعقد صلة مباشرة بين الكلمات والمعاني، فالأم حين تعلم وليدها كلماته الأولى لا تستطيع أن تنقل إليه معاني الكلمات المختلفة، وإنما يربط الطفل بين الكلمات والأشياء المحيطة التي تثير انتباهه، وهذا يخالف رأي الفيلسوف والمنطقي المعروف "فريجه" ورأي الفيلسوف وعالم اللغة الأمريكي المعاصر "تشومسكي" وغيرهما ممن اعتقدوا في ضرورة وجود معاني واحدة نشترك جميعاً في فهمها، وإلا ما استطعنا التواصل كبشر. لقد ظل كواين يشارك في الحياة الأكاديمية والفكرية حتى نهاية حياته، حيث نشر كتابا مهما عام 1995 بعنوان "من المثير إلى العلم" From Stimulus to Science حاول فيه أن يقدم استبصارات جديدة حول موضوع الإدراك والفهم))(1). وجميع هذه التصورات تعيدنا إلى الطرفة التى تقول:((في البدء لم يكن الإنسان يسأل ذاته أو غيره عن الحقيقة، وحينما ابتدأ السؤال جاء الأنبياء وقالوا: إنها في السماء، ثم جاء الفلاسفة وقالوا: إنها في العقل، وذهب علماء عصر النهضة إلى أنها: في الطبيعة، وفي العصر الحديث زعم ماركس: أنها في البطن، وزعم فرويد أنها: فيما دون " السرة " وأكد نيتشه: أن لا وجود للحقيقة، لكن أينشتين أكد في الوقت نفسه: أن الحقيقة موجودة " لكنها دائما نسبية ")). والطرفة كما نرى قد تبدو قولا بسيطا في الظاهر، لكنها فى الباطن العميق تختزن قلقا معرفيا ومنطقيا ومنهجيا مرهقا للبحث عن حقائق الأشياء والموجودات والذات والعالم، مما يدل على أن مفهوم الحقيقة نفسه، وطرائق تعقلها،قد تعرض لتشوهات لغوية وسياسية واجتماعية ونفسية وفلسفية كثيرة، فكل خطاب من هذه الخطابات حاول تأطير وتوصيف الحقيقة في نسقه العلمي الخاص به، وقد أخفى الحقيقة بقدر ما أظهرها، وأربك كليتها من حيث وقوفه على بعض جزئياتها فقط، وشوهها من حيث أراد إصلاح حالها، وطمسها من حيث ظن الإبانة عنها، وإذا كان هيدجر يقول بأن "(( اللغة هي بيت الكائن)) فمن الممكن أن نرى اللغة أيضا من وجهة نظرنا ((سجن ومنفى الكائن )) وإذا كان العقل والواقع والوجود هو محض اللغة التى يتكلمها بلا زيادة ولا نقصان، حيث حدود العقل والحقيقة والواقع هى حدود اللغة،فإن العقل يخضع بصورة حتمية لما تخضع له اللغة،وإذا كانت اللغة ليست عقلا محضا فإن التعقل ليس تعقلا محضا أيضا فيما نرى، ذلك أن(( سيطرة العقل على الموضوع لم تكن أبدا مجرد إجراء نظرى، بل هى سيطرة على العالم وتنظيم له في آن، ولهذا فالتاريخ لا ينفصل عن تاريخ العقل نفسه، لأن التاريخ هو النسخة العملية الفورية لأعمال العقل))(2)،لكن الواقع ليس هو العقل وطرائق إدراك الواقع ليست هى الواقع نفسه،فالمعرفة ليست هى الأشياء،والنظريات ليست هى الأحياء، ولا مفر للغة التى هى العقل من تغلّيَب حس التجزيء على حس التركيب،وحس الانعزال والاستقلال على حس التداخل والتعدد،وحس التعاقب الزمني السببي العلي الفقير على ما نطلق عليه هنا ((حس التنامي العضوي البيني الحي)) القائم على التداخل الدوري للزمن،وما يحتويه من شبكية معرفية تشعبية تنتظم المجهول ضمن المعلوم واحتقاب القدرة على الوعي بالجهل التى يراها متضمنة بالضرورة ضمن القدرة على الوعي بالعلم،حتى لتنتظم هذه الشبكية ضمن ما تنتظم العقل والوجدان والاستشراف والحب والنشاط والجدل والتسامى،ولو أردنا أن نبسط القول النقدي حول الأخطاء المنهجية والمعرفية والمنطقية الفادحة التى وقع فيها المفكرون الغربيون ــ إذ العلم كما يقول باشلار هو تاريخ الأخطاء العلمية المصححة ــ ومن تبعهم من المفكرين العرب المعاصرين بخصوص قصور مفهومهم لمصطلح العقل والوعي وطرائق الإدراك والتعقل، وغياب منطق جدل الوجود الحي ، وغياب منطق العقل المتجسد القائم على الحب والتعاطف والتسامى والترامي في تصوراتهم المعرفية حول مفهوم العقل ـ أقول لو تتبعنا كل ذلك لدى مفكرى الغرب وبالتبعية لدى المفكرين العرب ــ لهالنا هذا الهزال المعرفي الفادح في الوعى بجوهر الأشياء والأحياء والظواهر والوقائع والنصوص،وقصور معرفتهم بطبيعة المجتمع الثقافي الغربي والعربى بوصفهما نصوصا عقلية أيضا!!فلا يعنى العلم بالوقع حقيقة وجود الواقع!!ولا تعنى المناهج والنظريات التى تحاول تصنيف الواقع بالعقل أنها قد احتوت الواقع بالفعل!!هذا ليس صحيحا بالضرورة،لا على المستوى السياسى والإجتماعى والإقتصادى والجمالى والفلسفى، ولا على المستوى المنطقى أو العلمى التجريبى أوالمنهجى فأى ظاهرة علمية تجريبية منطقية لا تستطيع أن تدعى القدرة على التحقيق بصورة مطلقة فى صدقها،أو حتى كذبها، حتى وإن ادعت ذلك عقليا من الجهة العلمية أو الفلسفية،إن ظهور الشمس ملايين المرات لا يعنى أنها ستطلع غدا بالضرورة ، غير أنها لا تستطيع ولن تستطيع أن تدعى عدم قابليتها للتكذيب مع دوران الأحداث والمتقلبات والمستجدات ، وهذا راجع إلى أن التدفق الحى المتجدد للحياة والوجود والظاهرات والنصوص أعمق وآصل من جميع تصوراتنا العقلية والعلمية والمنهجية عنها، فالنظرية ـ أية نظرية مهما كانت شروط دقتها العقلية واتساقها البنيوى الداخلي ـ هى محدودودة بحدودها التاريخية الجدلية،وحدودها العلمية التجريبية، ومن ثمة فهى جامدة بصورة من الصور، بينما شجرة الحياة رعراعة نضيرة غيسانة بماء الوجود الدافق،يقول كارل بوبر أحد فلاسفة العلم المعاصرين ((ينبغى على العلم الذى يزعم أن نظريته تؤيدها الملاحظات والتجارب أن يسأل نفسه:هل يمكنني أن أصف نتائج محتملة للملاحظات التي إذا حدثت بالفعل تفند نظريتى))((3). إن الأشياء والأحياء والوقائع والألوان والأصوات والأمكنة والأزمنة على الرغم من انغمارها في التيار المادي للواقع الحسي العياني غير أنها تترامى باستمرار إلى صور ورموز أعلى منها ، إن العالم من حولنا ليس هو الشئ في ذاته فقط،بل من الممكن أن نقول بأن العالم هو الشئ في ذاته وما بعد الشئ في ذاته حتى لا نحجر على هذا التعالي الميتافيزيقي الكامن في بنية الأشياء والأحياء على الدوام ، ولعلنا نتذكر هنا القضية الفلسفية المزمنة بين مختلف النظريات الفلسفية والتي تقرر : هل العالم هو الأنا في ذاتها والوجود الموضوعي الخارجي محض وهم ؟! أم العالم هو الوجود المادي الموضوعي والأنا جزء منه ؟! أم هناك هذا التضايف الجبري في كل وعي بشري بين الذات والموضوع كما تقرر الفلسفة الظاهراتية منذ ميرلوبنتي ومرورا بهوسرل فهيدجر ، ولعلنا لا ننسى هنا دفاع برتراندرسل عن مبدأ " الواحدية المحايدة " في مواجهة مذهب الأنا الوحيدة ( Solipsis ) حيث الواحدية المحايدة تعادل بين الحقيقي وما هو معطى في الخبرة الحسية ، في مواجهة الأنا الوحيدة التي تقر بأن ليس هناك من وجود سوى وجود الأنا ، أما العالم الخارجي المحيط بنا فليس سوى صورة من صور الأنا ، حتى ليقرر إرنست ماخ بأن " الإحساسات هي العناصر التي تتكون منها الطبيعة، وليست الإحساسات علامات للأشياء وإنما الشئ على العكس من ذلك رمز نكري لإحساس مركب ، بعبارة أكثر دقة العالم لا يتألف من أشياء وإنما من ألوان وأصوات وأثقال ومسافات وأزمنة أي باختصار مما نطلق عليه عادة اسم الإحساسات الفردية "(4)،وما يتصوره (ارنست ماخ) هنا توصلت إليه النظرة الجديدة لنظريات العلم المعاصر ، فالعالم غائي تطورى متحرك، وكل هذه التصورات الفكرية والفلسفية والعلمية تشير بصورة صريحة أو ضمنية بأن العالم من حولنا كريستالة وجودية كبرى لا يقر لوهجها المعرفي قرار، فهي تشع بالرموز والدلالات والأفكار والصور في كل اتجاه،إن العالم من حولنا مجال كوني واسع الإثارة والأخيلة والمشاعر والعوالم الظاهرة والباطنة، فالعالم في ظاهرة نشاط وعمل دائب واتساق وضرورة ولكنه في باطنه نمائي وحر وجميل،فالظواهر من خارجها نشاط عملي لا انقطاع فيه ، لكنها من باطنها صمت خلاق فاعل،ومن ثمة فمهما تدشنت الأنساق والتصورات والوقائع والأنظمة بآلاف الشواهد والتحقيقات، فلن تكون قادرة على فض أسرار الواقع،ومغيبات الوقائع،فليس هناك أى دليل صادق، أو حتى برهان أكيد على أن الحالات التي كان لدينا عنها خبرة ماضية تشبه تلك التي لم يكن لدينا خبرة بها الآن ولنا أن نتساءل هنا مع ديفيد هيوم ((1711 ـ 1776)) عندما قال: (( هل يسوغ لنا استنتاج حالات أو نتائج تفتقر إلى خبرتنا من حالات متكررة قامت على تلك الخبرة))(5)،وهذا يؤكد إخفاق المنطق السببي الموضوعي فى تفسير أحداث الواقع والعالم وتعاظم دور منطق تصورى جديد يسمى ((المنطق الدوري التداخلي))،في تفسير الواقع والعالم،لقد أشار هيوم قديما إلى أن الاستقراء لا يستطيع مهما كان دقيقا ونزيها وكليا أن يفسر لنا تشعبات الواقع والظاهرات من حولنا "(( فلا يمكن لأي عدد من الملاحظات المفردة أن يستلزم منطقيا قضية عامة،فإذا لاحظنا أن ( ب ) تتبع ( أ ) في حالة معينة فلا يلزم عن هذا منطقيا أن ( ب ) ستتبع ( أ ) في الحالة القادمة ، ولا يتأتى نفس الشئ من تكرار الحدث مرات عديدة ، ربما نتوقع فقط أن يحدث نفس الأمر في المرة القادمة ، ولكن هذا التفسير ينتمي إلى عالم النفس لا المنطق ، فالشمس أشرقت آلاف المرات من قبل ، ولكن هذا الأمر لا يتضمن منطقيا أنها ستشرق غدا : فلا توجد حجة برهانية تثبت أن الحالات التي كان لدينا خبرة بها تشبه تلك التي لم يكن لنا خبرة بها)(6) لكن معظم مفكرينا لم يعى الظواهر الحياتية والثقافية والمعرفية العربية إلا من خلال مفهوم فقير جدا للعقل والتعقل يكاد ينحصر في المادية الصلبة الجامدة،والسببية العلية المسطحة، التى تختزل الثراء المذهل للواقع والعالم عبر خطوط فكرية كبرى فقيرة،ومن ثمة أدركوا الواقع والمادة والذات والروح والعقل والثقافة ركامات مجزأة ممزقة صلبة،ولم يتصوروا إشكالات الواقع الحضاري الإسلامي العربي إلا في صورة أشتات معرفية غليظة من الثنائيات الفكرية المبعثرة بين العقلي والحسي، والمادي والروحي، والأنساق المعرفية المفككة بين منطق البرهان ومنطق العرفان ومنطق البيان،ولذلك حرقوا المسافات الخصيبة المتجددة المتداخلة بين عرفان الغزالي وبرهان ابن رشد،وأقعوا الثقافة العربية الإسلامية في ثنائيات علمية ومنهجية فقيرة، وهى ثنائيات مبعثرة مفككة يغيب عنها حس التواصل الروحي والتجريبي والعقلاني والمادي والتداخل المعرفي والمنهجي، وهذا راجع فيما نتصور إلى غياب مفهوم واضح للعقل يجمع بين العرفان والبياني والبرهان والاستشرافى الاحتمالي فالعقل مفهوم وجودي معرفي منهجي فلسفي واسع،فالتعقل التجسيدي الحي هو الانتقال بمنهجية المعرفة من حدود صارمة إلى حدود مرنة فعالة،وانتقال ببنية التعقل من صرامة الأطر إلى سماحة التداخل والتعدد والاحتمال والإمكان بوصفها واقعا كمينا ممكنا، لكن مفكرينا آثروا غلظة الحدود على نشاط الجدل،نجد هذا لدى معظم مفكرينا من زكى نجيب محمود،وفؤاد زكريا،وحسن حنفى،وعبد الرحمن بدوى، وأنور عبد الملك، وغيرهم في مصر،إلى طيب تيزينى وإبراهيم غليون في سوريا،ومحمد دكروب في لبنان، إلى محمد أركون ومحمد عابد الجابرى ومحمد عزيز الحبابى وعبد الله العروى في المغرب،إلى مالك بن نبى في الجزائر،وغيرهم كثيرون، ذلك أنهم قد فسروا مفاهيم مثل العقل والوجدان والتخييل في ضوء الفلسفات الغربية النظرية، ولم يتعمقوا فيها حتى نهاية أشواطها الفكرية التى تطورت كثيرا عن أفكارهم، وطرائق تلقيهم الثقافي لها ناهيك عن عدم تمكنهم الدقيق بالفوارق المعرفية الكبرى بين العقل التجسيدي الفعال الذى يخص كل حضارة على حدة والذى يقف ضد منطق العقل التجريدي العام الذى نادى به ديكارت في بدايات فلسفة التنوير الغربي،والذى تم تجاوزه فى الفلسفة الغربية بصورة جذرية لدى هايدجر ونيتشة، وسوزان لانجر، وجورج لايكوف ومارك جونسون وريتشارد روترى وفلاسفة العلم المعاصرين مثل: (إمرى لاكاتوش وفيرا أبند وويلارد فا كوين))وفلاسفة اللغة مثل( جورج لايكوف ومارك جونسون)) وفلاسفة مابعد الحداثة مثل ((ريتشارد روتري ـ ومان دى بول وفرانسوا ليوتار ولندا هتشن) في كتبهم الفلسفية الكبيرة حول العقل التجسيدي والمجازى،والعقل اللاانسجامي و العقل التناقضى المفارقي، لكن فصل معظم المفكرين المسلمين العرب على اختلاف توجهاتهم الفكرية،وتباين خلفياتهم المعرفية بين العقل العرفاني، والعقل الأصولى، والعقل اللغوي، والعقل البياني، والعقل البرهاني،وقالوا أن لا لقاء أبدا ــ وهو وهم معرفي منهجي فادح ــ بين عقل ابن رشد وقلب الغزالي في بناء حضارة إسلامية مدنية معاصرة،ونادى كثير منهم بوجوب تفعيل فلسفة ابن رشد والتخلى تماما عن فلسفة الغزالى التى قضت على مفهوم العقل في الواقع الفكرى الإسلامي بزعمهم،وقد أدت هذه القراءة الفلسفية التفتيتية البرجماتية والسياسية إلى تعويق حركة العقل الإسلامي العربي، و بالتالي تعويق البناء المدني للمجتمعات الإسلامية العربية في العالم المعاصر،كما أدى إلى تعميق الفجوة المعرفية بين المعرفة الأوربية والمعرفة الإسلامية،وتعويق حركة التلاؤم الثقافي الإنساني والعالمي،ولم يستفد مفكرونا من تعدد أنظمة العقل وخصائصه فى الفكر الإسلامى والعربي القديم سواء لدى الغزالى أو ابن رشد،فهناك صور متعددة للعقل كان من الممكن الإفادة المعرفية منها والبناء عليها بصورة فلسفية منطقية مبتكرة بما يوسع من حدود الوعى واللغة والإدراك والواقع والمادة والعلم معا،((فالعقل لدى الغزالى هو منبع العلم ومطلعه وأساسه،والعلم يجرى منه مجرى الثمرة من الشجرة،والنور من الشمس..... والعقل هو الوصف الذى يفارق الإنسان به سائر البهائم وهو الذى استُعِدَّ به لقبول العلوم النظرية وتدبير الصناعات الخفية الفكرية.... والعقل هو علوم تستفاد من التجارب بمجارى الأحوال....والعقل له معان عديدة: فقد ذكرنا فى كتب العلم أن العقل يطلق ويراد به العلم بحقائق الأمور،فيكون عبارة عن صفة العلم الذى محله القلب،ويطلق ويراد به المدرك للعلوم فيكون هو القلب أعنى تلك اللطيفة،....والعقل يدرك غيره ويدرك نفسه عالما وقادرا،ويدرك علم نفسه ويدرك علمه بعلمه بنفسه،وعلمه بعلمه بعلمه بنفسه إلى غير نهاية،وهذه خاصة لاتتصور لما يدرك بآلة الأجسام ووراءه سر يطول شرحه....والعقل يدرك الوجود على سبيل التصور بلاشك،وهو مستغن عن الرسم والحد،إذ ليس للوجود رسم ولاحد...والعقل ليس مستقلا بالإحاطة بجميع المطالب،ولاكاشفا للغطاء عن جميع المعضلات.... وهناك العقل بالملكة والعقل العملى والعقل الغريزى والعقل الفعال،والعقل المجرد، والعقل المسفاد،وعقل المفارقات،والعقل النظرى،والعقل الهيولانى،.....فما بال أقوام من المتصوفة يذمون العقل والمعقول؟فاعلم أن السبب فيه ان الناس نقلوا اسم العقل المعلقول إلى المجادلة والمناظرة بالمتناقضات والإلزامات،وهو صنعة الكلام،فلم يقدروا على ان يقرروا عندهم انكم اخطأتم فى التسمية إذ كان لاينمحى عن قلوبهم بعد تداول الألسنة به ورسوخه فى القلوب فذموا العقل والمعقول وهو المسمى به عندهم،فأما نور البصيرة التى بها يعرف الله تعالى ويعرف صدق رسله،فكيف يتصور ذمه وقد أثنى الله تعالى عليه وإن ذم فما الذى بعده يحمد؟!فإن كان المحمود هو الشرع فبم علم صحة الشرع؟فإن علم بالعقل المذموم الذى لايوثق به فيكون الشرع أيضا مذموما ولايلتفت إلى من يقول:إنه يدرك بعين اليقين ونور الإيمان لا بالعقل،فإنا نريد بالعقل:مايريده بعين اليقين ونور الإيمان،وهى الصفة الباطنة التى يتميز بها الآدمى عن البهائم حتى أدرك بها حقائق الأمور،واكثر هذه التخبطات إنما ثارت من جهل من طلبوا الحقائق من الألفاظ فتخبطوا فيها لتخبط اصطلاحات الناس فى الألفاظ))(7) فانظر مدى الثراء المعرفى والتصورى وحتى التخيلى لمفهوم العقل عند الغزالى بما ينأى به عن أن يكون فى مواجهة عنيفة مع ابن رشد، أو على تناقض تام معه،وفى المقابل لم يكن ابن رشد كما كتب هو فكره ـــ وليس كما استوعبه المفكرون العرب والغربيون معا حيث الاستيعاء والتلقى لاينفصل بحال عن الأطر الثقافية والتربوية والمعرفية والتأويلية التى يعتنقها المفكر بحال من الأحوال، فنحن نفهم ونفسر ونقيم بل ونرى بأطر رمزية مسبقة تؤطر حدود الوعى واللاوعى معا،ولامفر للبشر وللفكر والمعرفة الإنسانية من حدود التحيز والقياس وإكراهات الثقافة ـــ لم يكن ابن رشد فى مواجهة تناقضية بالكلية مع فكر الغزالى،لكن غياب الوعى النقدى لدى مفكرينا،وضآلة جسارة الوعى بالمتناقضات والمفارقات الكامنة والكائنة بالفعل فى بنية المادة والواقع والمعرفة والوجود،وغياب الوعى بالاستمرار والانفصال داخل منظومة الاتصال والاستمرار سواء فى بنية الوجود أو العقل والمعرفة ـ أقول كل ذلك أدى بالمفكرين عرب وغربيين ان يصدروا فى فكرهم العقلانى عن العقل اللفظى التخبطى كما انتبه إلى ذلك الغزالى نفسه بعبقريته النافذة،فمفكرونا يميلون إلى رزيلة الهدر اللغوى الاصطلاحى المؤدلج بعيدا عن الوقوف على محنة الثقافة واللغة والوجود والمادة فى ذاتهم ولذاتهم أى لوجه العلم فى ذاته، وتثمين قيمة الانتباه العقلى النقدى لوجوه الجدل والحركة والتعدد والتعقد والتداخل فى بنية الواقع والعالم والعلم والمعرفة والمناهج معا،فصنع مفكرونا جراء ذلك كله أوهاما فكرية وفلسفية ومنهجية كثيرة كانت على رأسها هذه الثنائية المعرفية الغليظة الموحشة بين قلب الغزالى وعقل ابن رشد،وهى ثنائية سياسية تربوية تجريدية عوقت الحركة الحرة للعقل العربي الإسلامى عبر تاريخه الفكرى المديد،كما عوقت الواقع الحضارى والثقافى العربي المعاصر عن الموائمة الجدلية المادية الفكرية الحية بينه وبين ذاته، وبينه وبين ثقافات العالم من حوله،وبينه وبين القدرة على إقامة جدل معرفى صحى مع الآخر،كما أقامنت السدود والحدود بين متصلات المعرفة وتداخلات اللغة ومفارقات وتناقضات الوجود،وبهذه المثابة المعرفية والمنهجية أرى من وجهة نظرى الخاصة أن التنوير العربي كان فى معظمه إظلاما لأنه ألغى العقل بالعقل،وحرق الواقع بالثقافة،وخلق المناوءات والمناورات الجدلية على إقصاء فكر التواصل والحيوية والإنسانية الحقة، والانفتاح الدينامى الوجودى الحر،فتنويرنا كان حركة ضد فكرة التوير نفسها وماتتطلبه من جدل وتعدد وتواصل وتداخل وإنتاح سواء على مستوى بنية الفكر أو بنية الواقع، على عكس التنوير الغربي الذى تراجع كثيرا عن مقولاته الفلسفية الكلية والتجريدية،بل تراجع كثيرا جدا عن الإرث الديكارتى والهيجلى والماركسى الشمولى والثنائى،وكفوا عم ممارسة رزيلة منهجية التعارض الذي أقامه كانط بين "العقل النظري" و "العقل العملي"، وإظهروا أنّ المعرفة ذاتها هي ممارسة،كما علينا ألا نتلمس معيار الحقيقة فى العقل المحض ومقولات الذهن التجريدى فقط،بل علينا أن نتلمس الحقيقة فى الروح المعرفى المتكامل دوما بين المفهوم والوجود،بين الوعى والممارسة وانعكاس هذا الوعى على نفسه بكل مايعنى هذا من تناقضات وتهويمات وضلالات وأوهام أيضا،فلاتعارض بين فلسفة المعرفة وفلسفة الممارسة فالممارسة نفسها ولذاتها هى علم كبير بل هى علم العلم لو صح التعبير،فالعقل نفسه تداخلات نفسية ووجدانية وروحية وبرهانية ومنطقية واستدلالية وتجريدية وجسدانية معا وفى وقت واحد،العقل ليس مقابلا للأسطورة بل هو ضمن نسق الأسطورى،وليس مضادا للعاطفى بل هو داخل النسيج العاطفى نفسه،وليس فوق الجسدى بل نحن نفهم داخل حدود أجسادنا وليس خارجها على الإطلاق،وفى مقابل نسقية وتجريدية وثنائية الفكر العربي الإسلامى، هذا نجد كثيرين من المفكرين الغربيين الكبار ((ريشارد روترى، وبول دى مان، ولندا هتشن، وجان فرانسوا ليوتار، وإمرى لاكاتوش، وفيرا أبند، ولافيناس ودوللوز وغوتارى وميشيل فوكو،وجاك لاكان، وغيرهم من كبار رجالات العلم والفلسفة المعاصرين)) يصرخون في عقولنا وأفئدتنا وأخيلتنا ومعارفنا بأن العلامة اللغوية ليست الشئ بالضرورة وأن المعنى السائد ليس الحقيقة بالتمام، فنحن عندما نستخدم اللغة والمعرفة والمناهج في تجسيد مرامي أفكارنا، تستخدمنا اللغة والمعارف أيضا فتعيقنا عن ذواتنا الحقة، وهمومنا الصادقة، وطموحاتنا المستشرفة، ومن هنا رأى العقل الفلسفي الغربي أن الوجه الأمثل لاحترام العقل والعقلانية تتمثل الآن في وجوب مواجهة تجريدية ومركزية العقل أكثر من أى وقت مضى،وهكذا أدرك العقل النقدي الغربي أن كل قراءة ـ بالمعنى الفلسفي للقراءة ـ هى (( لون من التشبيه، أكانت شرحا، أم تفسيرا،أم تأويلا، وسواء اختص الأمر بقراءة العالم، أم بقراءة النصوص،أى قراءة القراءة، ذلك بأن الإنسان إذ يقرأ معانى الأشياء أو يقرأ فيها، فإنه لاينفك يعير الأشياء أسماءه، ويخلع عليها أوصافه، إنه يقرأ عبر قراءته للشيء في جسده فيكنى عن رغباته، وينبئ بأحواله، ويرمز إلى أطوراه،ويعقل نفسه ويستعرض قوته، فلا فكاك إذن من تشبيه، والتشبيه أثر من آثار الذات،إنه قراءة فيما هو الإنسان وفيما يعرض له من صور ورسوم..... لذلك فإن القارئ إذ يقرأ إنما يعيد إنتاج المقروء بمعنى من المعاني،وعلى صورة من الصور))(8).لقد كان فهمنا الفلسفي والمنطقى لمفهوم العقل كليلا شاحبا إلى الدرجة التى صحرنا بها مفهومه واختزلناه إلى تجريدات معرفية فقيرة،بل ربما قصرنا فيه عن مفهوم السلف من مفكرينا القدامى، فالعقل مفهوم متشعب جد رجراج من التشعبات والتبديات المعرفية والروحية والخلقية والبرهانية بل العقل كان هو حركة العقل الفلسفي وحيويته وقلقه،لقد كان بعض السلف يقولون عن العقل أن اسمه "يدل على معان كثيرة" (العقل الفعال والعقل الإنساني والعقل المستفاد)؛ أو "في أن بعض المسائل توجد بالفكر والرؤية وبعضها بالخاطر والإلهام" (انظر التوحيدي، المقابسات، رقم 83 و55).وربما لو قرأنا تراثنا الفلسفي العربي لأفدنا من بذور مفاهيمية كثيرة عن مفهوم العقل كانت قادرة على تطوير تصورات المفكرين المسلمين المعاصرين لمفهومه الواسع الكبير، فلدينا الكندى الذى رأى العقل جوهرا مجردا في ذاته يدرك الأشياء على جوهرها، وهو ليس بجسم،ولدينا ويوافقه الجرجانى في تعريفاته بأن العقل هو مجرد عن المادة وهو جوهر في ذاته،وابن رشد الذى رأى العقل ((ليس قوة جسمية ولا يستخدم أى عضو جسمانى،والعقل ليس هو شيئا .. أكثر من إدراك نظام الأشياء الموجودة وترتيبها وأسبابها))،وكلها تصورات تفصل وتفتت بين تواشجات الجسد الواحد الذى هو عقل وروح وشوق وتجريب واحتمال واستشراف مرة واحدة وفى وقت واحد،،وهناك آراء لبعض المتكلمين والأصوليين للعقل بأنه هو الغريزة التى نعرف بها بصورة قبلية العلوم الضرورية والأشياء على جوهرها الطبيعى، قال بذلك المحاسبي والشافعي وأحمد بن حنبل والغزالي وابن تيمية،وفرقوا بين مفهوم العقل الذى هو العلوم الضرورية ومفهوم العقل الغريزة بما يفرق بين المدرك والمدرك وأداة الإدراك،وهناك آراء كثيرة للمعتزلة وابن سينا والغزالى والأشاعرة للعقل لو رحنا نتتبع ذلك بصورة شاملة لما كفتنا مجلدات كثيرة لكننا نريد هنا أن نلفت النظر المعرفي إلى أن التراث الفلسفي والأصولي واللغوي العربي كانت لديه تصورات خصيبة متعددة حول مفهوم العقل بحيث يمكن البناء عليها في ضوء المستجدات الفلسفية والعلمية الغربية المعاصرة لإعادة بناء مفهوم العقل في الفكر العربي الإسلامي المعاصر كخطوة ضرورية لبناء الواقع الإسلامي في العالم المعاصر،حتى الغزالى نفسه قد قال فى كتابه((معيار العلم فى فن المنطق)) ((أما الفلاسفة فاسم العقل عندهم مشترك يدل على ثمانى معانى مختلفة: العقل الذى يريده المتكلمون،والعقل النظرى والعقل العملى،والعقل الهيولانى،والعقل بالملكة،والعقل بالفعل،والعقل المستفاد،والعقل الفعال،فأما الأول فهو الذى ذكره أرسطاليس فى كتاب(البرهان)وفرق بينه وبين العلم،ومعنى هذا العقل هو التصورات والتصديقات الحاصلة للنفس بالفطرة،والعلم ما يحصل للنفس بالاكتساب، ففرقوا بين المكتسب والفطرى،فيسمى إحداهما عقلا والآخر علما،وهو اصطلاح محض،وهذا المعنى هو الذى حد المتكلمون العقل به، إذا قال القاضى أبوبكر الباقلانى فى حد العقل: إنه علم ضرورى بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات،..... أما العقل النظرى فهو قوة للنفس تقبل ماهيات الأمور الكلية من جهة ما هى كلية))،ثم يقوم الغزالى بتوضيح آخر للعقل فى كتابه إحياء علوم الدين تحت عنوان((بيان حقيقة العقل وأقسامه))،وكل هذا يؤكد على أن الغزالى لم يرفض منطق العقل وحدوده فى مواجهة عقلانية ابن رشد بل يقف الغزالى مثل ابن رشد على حدود العقل وقوته،ولكنه رأى أن العقل وحده لا يستطيع الإحاطة الدقيقة بالوجود وظاهراته والنفس وممكناتها،والزمان ومعضلاته،وهو ما نشايعه عليه وما سنبسط فيه القول الفلسفى فى هذا البحث، لكن فضل المفكرون المسلمون المعاصرون الراحة على التعب،والتبعية المعرفية الفقيرة على التأسيس المبدع المنتج،فآثروا نمطا غربيا معينا للعقل تاركين بقية التراث الفلسفي الغربي والعربي معا، وتبعا لهذا فربما كان من الأفضل لنا ولواقعنا ولثقافتنا أن يسعى مفكرونا إلى بناء العقل المعرفي التجسيدي،القائم على التعقل التجسيدي الوجودي والإصغاء الروحي والعقلي والتجريبي الدينامى لطبيعة المادة والواقع والنصوص المحيطة بهم،بعيدا عن مجرد السيطرة الموضوعية المسبقة الغليظة على المادة بالمادة، فالواقع أكبر من أن يكون حالة عقلية أكاديمية خالصة،أو محض وصفة تصورية محدودة،وإنما هو حالة وجودية حية معقدة كل التعقيد تتناوب بين الوجود الحسى والعقلاني والتجريبي والاحتمالي والذى يتراوح دوما بين الفهم والتعقل وإعادة بناء الفهم والتعقل، ولن يتم ذلك إلا عبر جدليات معرفية منظومية تتعدد فيها المراكز المعرفية وتتصادى المرجعيات الثقافية عبر صور روحية وعقلانية وتجريبية ومادية وتخييلية شتى متلاحمة يموج بعضها في بعض، ويتنادى أس بعضها المعرفي إلى أس بعض، ولقد وقف فلاسفة العلم المعاصرين وقفة فلسفية مقلقة إزاء التناحر المعرفي الهائل في وسائلنا المعرفة لإدراك العالم والواقع والنصوص يقول الفيلسوف الأمريكى المعاصر جون سيرل ((إن ما يتوجب أن يشغلنا في فلسفة العلم وإلى ما آمل أن نكرس له جهودنا في القرن الحادي والعشرين. أعتقد أن الإشكالية الأساسية هي التالية. لقد تحدى علم القرن العشرين بطريقة متطرفة مجموعة من الفروض الفلسفية والبدهية الفعالة والسائدة المتعلقة بالطبيعة، غير أننا لم ننجح بعد في استيعاب هذه التطورات العلمية. إنني أفكر خصوصا في ميكانيكا الكم. أعتقد أننا نستطيع قبول النظرية النسبية بدرجة أو أخرى، لأنه يمكن اعتبارها بسطا لمفهومنا النيوتوني التقليدي للعالم. كل ما نحتاجه تعديل أفكارنا بخصوص المكان والزمان، وعلاقتهما بثوابت فيزيائية أساسية من قبيل سرعة الضوء. غير أن ميكانيكا الكم تشكل تحديا أساسيا لرؤيتنا في العالم، وهذا ما لم نستوعبه بعد. إنني أعتبر عجزنا حتى الآن عن طرح تصور متسق لميكانيكا الكم يناسب مفهومنا العام للكون، ليس فقط فيما يتعلق بالسببية والحتمية بل حتى أنطولوجيا العالم المادي، فضيحة تصم فلاسفة العلم بل تصم حتى علماء الفيزياء المهتمين بفلسفة العلم.لدى معظم الفلاسفة، كما لدى معظم مثقفي زماننا هذا، مفهوم في السببية يمزج بين أحكام الفهم المشترك والميكانيكا النيوتونية. هكذا ينزع الفلاسفة إلى افتراض أن العلاقات السببية تشكل دائما حالات عينية لقوانين سببية حتمية كلية، وأن علاقات السبب والنتيجة ترتبط فيما بينها في علاقات ميكانيكية بسيطة أشبه بعجلات ترسية تحرك عجلات ترسية، كما ترتبط مع ظواهر نيوتونية أخرى.إننا نعرف على مستوى مجرد ما أن هذه الصورة ليست صحيحة، غير أننا لم نستعض عن مفهومنا البدهي هذا بمفهوم أكثر تركيبا. أعتقد أن العمل في هذا المجال عبر الخوض في مثل هذه القضايا من أهم مهام فلسفة العلم في القرن الحادي والعشرين. نحتاج إلى طرح تصور في النظرية الفيزيائية، خصوصا نظرية الكم، يمكننا من استيعاب النتائج الفيزيائية في رؤية كونية شاملة ومتسقة. أعتقد أننا في سياق هذا المشروع سوف نحتاج إلى تعديل بعض المفاهيم الحاسمة، من قبيل مفهوم السببية; وسوف يؤدي هذا التعديل إلى آثار مهمة في مسائل أخرى من قبيل مسألة الحتمية وحرية الإرادة. الحال أن هذا العمل قد بدأ فعلا.))(9) ومن هذا المنطلق المعرفي التداخلى التعددي الذي يسقط الحدود الفلسفية والمعرفية بين العلوم والمعارف والتصورات مما يزيدها عمقا وخصوبة وتداخلا، نريد في هذا البحث تأسيس منهجية معرفية تعددية جديدة تتبنى فكرة المجال التحقيلى في رؤية الواقع الفلسفي والمعرفى العربي الإسلامي والعالمى المعاصر،وفكرة تحقيل المجال المعرفي تداخل ــ في الرؤية المعرفية ـ العربية والعالمية معا ـ بين الحسى والتجريبي والعقلي والتخييلى والحدسى الاستشرافى في ربقة معرفية منهجية تركيبية واحدة، تضم المعرفة إلى العرفان، وتقرن التصور بالبيان،وتجمع التخييل بالبرهان،حتى لتمحى الحدود الفاصلة بين العقل البرهان كما تصوره ابن رشد، و العقل العرفان كما تصوره أبو حامد الغزالى، والعقل البياني كما تصوره المفسرون وعلماء الحديث والأصول،ولعل هذا التصور يتفق مع تصورات العلوم الرياضية والتجريبية التطبيقية المعاصرة أو ما كان يطلق عليها لوقت قريب علوم المنطق والبرهان، تم ذلك بعد أن انهارت الحدود الثنائية بين منطق البرهان ومنطق العرفان، وبدأ عصر العوالم المعرفية المتعددة المتداخلة، نحن نعيش بالاستعارات العلمية كما نعيش بالاستعارات الأدبية، وتصوراتنا عن المادة والروح والنفس والطاقة، والزمن والحب، والكواكب والمشاعر، هى تصورات واحدة متداخلة متشابكة، والتغير الجذرى الذى لحق بجل المفاهيم السابقة سينال جميع وسائلنا فى الإدراك والوعي والخيال، كما سينال جميع قيمنا التى نعيش بها، يقول العلم المصرى الرياضى مصطفى مشرفة فى دراسته عن تقارب المسافات بين العلم والتصوف (( ثم جاء إنشتين بنظرية النسبية وجاء دى برولى وشرويدنجر بأن المادة إن هى إلا أمواج فى لاشئ لا سبيل إلى وصفها إلا باستعمال الرموز الرياضية المعقدة فتلاشت الأسس المادية التى كان العلم يبنى عليها صرحه واستعضنا عنها بمعادلات رياضية هى فى ماديتها أوهى من نسيج العنكبوت، ولكى أدل القارئ على موقف العلم إزاء الفلسفة الصوفية سأنقل له ترجمة عن (آرثر أو نجتين) من أكبر العلماء الفلكيين والطبيعيين من كتابه (( كنه العالم الطبيعى)) حيث يقول: (( كلنا يعلم أن هناك أنحاء من النفس البشرية غير مقيدة بعالم الطبيعة، ففى المعنى الخفى للخليقة التى تحيط بنا وفى التعبير الفنى وفى النزوع إلى الله فى كل هذه تطمح النفس إلى العلى، وتجد تحقيقا لشئ مودع فى طبيعتها، وتبرير هذا الطموح داخلي فينا، فهو محاولة من جانب إدراكنا أو هو نور داخلي ناشئ عن قوة أعظم من قوتنا، والعلم يكاد ليقدم على الشك فى تبرير هذا الطموح، إذ أن الرغبة فى العلم هى نفسها ناشئة عن وازع داخلي لا نقوى على ردعه، فسواء فى الاستزادة الفكرية من العلم أو فى سائر النزعات الروحية الخفية فى كلتا هاتين أمامنا نور يجذبنا إليه، ونحن نشعر بالرغبة فى السعي نحو هذا النور، ألا يكفى أن نترك المسألة عند هذا الحد وهل من الضروري أن نصر على استخدام كلمة الحقيقة كما لو كانت لازمة لتشجيعنا فى مجهودنا))(10). وهذا التقارب الحميم بين الذى يلحظه العالم الرياضي المصري الكبير مصطفى مشرفة وغيره من العلماء التجريبيين فى رصدهم العلاقات الظاهرة والخفية بين التصوف والعلم وسعيهم الأبدي الحميم صوب التكشف عما يربط بين بنى جميع مظاهر الوجود واللغة والمعرفة،هو ما يراه العلماء والفلاسفة المعاصرون ويؤسسونه فى معارف ومناهج العلوم التجريبية والفلسفية المعاصرة ورصدهم جدل المعلوم والمجهول، والغياب والحضور داخل الكثافة الزمنية نفسها، بعد أن انهار مفهوم العلم بما أنه الوعى بالشيء فى ذاته، وانتقل إلى الوعى بصورتنا اللغوية الرمزية عن الشيء حال جدله التناقضى اللانسجامي مع نفسه وغيره من جهة،وحال جدله مع المظنون به والاحتمالي الكامن فى بنية الواقع المادى من جهة ثانية، ومن هنا صار الوعي بالجهل حدا فى العلم مثله مثل الوعى بالعلم تماما، فالمعرفة تخفى بقدر ما تكشف، وتمنع بقدر ما تمنح، والدلالة بقدر ماتكشف تعمى، فبقد ماتبصرنا على الشىء فهى تتكتم عليه أيضا،ومن ثمة يكون الاحتكام إلي القياس الخفي ضرورة لازبة لامفر منها،مما دفع فلاسفة العلم المعاصر أمثال فيرا أبند وإمرى لاكاتوس وكارل بوبر وتوماس كون وفلاسفة مابعد الحداثة فى العالم الغربي كله إلى أن يدخلوا الجانب السيكولوجى والسسيولوجى كأحد الأساسات المعرفية الأصيلة فى تأسيس بنية العلم نفسه، وهو الأمر الذي يؤكد أن الإنسان يدرك كثيراً من الأمور الهامة للغاية إدراكاً فطرياً لا شعورياً،أو حتى إدراكا شعوريا ولكنه يفتقد القدرة التجريبية على إقامة البرهان المنطقى والعملى والتجريبى عليها تماما كما أقر الغزالى من قبل فى كتابه عن تهافت الفلاسفة، وربما كان الفقه الإسلامى القائم على الظن أقرب أصالة إلى الحقيقة المادية للواقع والتعقل، من العقل اليونانى القائم على التجريب النظري العملى فقط، إن العلم مثله مثل الشعر والتصوف يصل إلى حقائق فعلية، وإن لم يستطع التعبير عنها وفق أسس عقلية واضحة وهنا يلعب الحدس والتخمين، واستشرافات البصيرة، والخيال، دوراً رئيسيا، بل (أقول تأسيسيا)ً فى الإدراك، سواء أكان إدراكاً علمياً أم إدراكاً جمالياً، إن التغير الجذري الذي طرأ على تصورات العلم ونظريات المعرفة والفلسفة، له علاقة كبيرة بالمستجدات الوجدانية والنفسية والشعورية التى اقتحمت المعقل التجريبى للعلم التطبيقى نفسه وعلاقته بالواقع والعقل والتجريب، وهى تصورات كانت تهاب مجرد القرب من السياج المعرفى والمنطقى الرصين للعلم والعقل ومن هنا فهى تهدد ما شاع وهما حول القيمة الموضوعية الصارمة للعلم،وماساد من أقاويل الرصانة العقلية والمتانة الموضوعية والاتساقية البنيوية الداخلية لجسم العلم نفسه دون خروق وفجوات، وأن كل ما هو غير خاضع للمعمل ولا للعقل ولا للمنطق لا علاقة له بالعلم الحق. لكن تغيرت التصورات المعرفية والمنطقية والمنهجية تغيرا كبيرا فى اتجاهات علوم وفلسفات ما بعد الحداثة، لقد أصبح تاريخ العلم وأحوال وجدانات العلماء وتصورات حدوسهم ومطارح تخيلاتهم لها كبير القيمة في تصورات نظرية المعرفة في الفلسفات الغربية المعاصرة ، حتى لنجد علماء وفلاسفة معاصرين كبار يقننون منطق هذه التصورات في كتابات عميقة مثل كتاب ( هيلين لونجينز ) مصير المعرفة عام 2002 / أمريكا،وكتابات (توماس كون) خاصة كتابه الأخير عن ((بنية الثورات العلمية))،وكتابات الفيلسوف الكبير ((فيرا أبند))ومحاوراته الفلسفية الطويلة عن معيار العلم ومعيار المعيار،وكتابات الفيلسوف المجرى الكبير إمرى لاكاتوش التلميذ النجيب لفيلسوف العلم لكارل بوبر فى تدشيناته الفلسفية العلمية المبتكرة عن سياسات العلم لا قواعده، وتخييلات الحقيقة لا منطقها، وكشوفات الفيلسوف الأمريكي الكبير " كوسي " الذي أعاد النظر بعمق فلسفى نافذ فيما يبدو أنه مألوف شائع لا يخضع للمساءلة فقال بأن القضايا التركيبية و التحليلية فى المنطق ليست دقيقة في معيارها فحتى هذا المعيار في التقسيم هل هذا الشئ تركيي أم تحليلي ؟ معيار مضطرب، يسقط عندما نوجه إليه هذا السؤال:وما هو معيار المعيار ؟ تساؤل فلسفي عميق هز الأساسات المنطقية والموضوعية والمنهجية والمنطقية،مما وسع كثيرا من تصور الوجود / المعرفة / العقل / الفكر ،والواقع،وفتج المجال المنطقى والعلمى واسعا لفكر التداخل والتعقيد والتركيب الجدلى المتوتر للقضايا والتصورات والمنطق. وباتت تصورات راسخة متبعة مثل: الموضوعية والعقلانية والواقعية والجمالية والمجازية في حاجة ماسة إلى إعادة فهم تصورها ،بل إعادة بناء مجالها المفاهيمى والمعرفى من جديد.لكن معظم مفكرينا القدامى والمحدثين قد وقع فى وهم ادعاء الصرامة المنطقية للموضوعية العلمية في دراسة الحادثات والظاهرات والنصوص ،وأرادوا أن يقيموا حدودا حاسمات بين ما يخضع لمنطق العقل وبين مالا يخضع له، وجعلوا منطق الوجدان ضد منطق البرهان، وقالوا بأن منطق العرفان ضد منطق البيان وهكذا دواليك في قصة الانفاصامات العلمية النكدة بين حقل معرفي وآخر في ثقافتنا العربية والإسلامية القديمة والمعاصرة،واطمئن مفكرونا لفكرة القبول والدقة والوضوح أكثر مما اطمئنوا لفكرة القلق والمساءلة والقدرة على المغامرة واجتراح احتمالات الوجود، فقد استبدل الخطاب الثقافي العربي الإسلامي المؤسسسى ـ في معظمه ـ الفعالية بالفعلية، والتفاعل بالانفعال، والغربلة والانتقاء والاستبعاد والنفي، بالقبول والتسليم والانبهار، وبكلمة واحدة ارتاح معظم مفكرينا إلى يقين الأجوبة مستبعدين قلق الأسئلة،قد أسأنا كثيرا إلى العلم والحقيقة والمعرفة عندما أنكرنا كثيرا من الحقائق العلمية والاجتماعية بسبب عدم خضوعها لأساليبنا المعتادة المألوفة في الإدراك والقياس والمراقبة والاستنتاج والاستدلال،لكننا في هذا البحث لن نسلم بفكرة الفواصل الفكرية والمنهجية الغليظة بين حدود الجسد الفكرى والوجودى الواحد والتى دشنها معظم الفلاسفة والمفكرين سواء في واقعنا الثقافي العربي،أو الغربي،كما فعل مثلا عندنا محمد عابد الجابرى في فصله العقل البياني عن البرهان عن العرفان في دراساته عن بنية العقل العربي، أو زكى نجيب محمود في فصله بين بنية المعقول واللامعقول في ثقافتنا العربية، وما فعله غيرهم من المفكرين العرب في تصور إشكالات العقل العربي والواقع الثقافي المعاصر بصورة عامة،يجب أن نسلم بأننا نفكر بالاستعارات الإدراكية،مثلما نفكر بالاستدلالات العقلانية المجردة،بما ينفى هذا التلكؤ المعرفي والمنهجي الغليظ الفاصل بين آليات وعى العقل ووعى التجريب ووعى التخييل والوجدان، إن ضيق الأفق المعرفي الإسلامي المعاصر راجع في معظمه ـ كما أرى ـ إلى ضعف العقل النظري الإسلامي،أو قل إن العقل الإسلامي لم يتأسس بعد بصورة معرفية جادة،ولن يستطيع هذا العقل أن يتجاوز محنة تفككه المنهجي والمعرفي والخيالي إلا إذا استطاع أن يسلم بحيوية الجدل وثراؤه وتعدد سياقات المعارف والتصورات، وتداخل المناهج وتصاديها المعرفي التكوينى، وقدرتها على المزج المعرفي والتركيب المنهجي والصهر التعددى التداخلى في الرؤية والفحص والتأسيس وإعادة البناء، إن فكرة التداخل التخييلى والمعرفي والعقلانى والتجريبى والإنسانى والثقافى والمادى تترامى إلى تجاوز انغلاق النسق الواحد، إلى دينامية الأنساق المعرفية المتداخلة،وتفتح باب الجدل على الواقع والحياة والوجود قبل انفتاحه على الثقافة والمنهج والشكل،ونحن نقر هنا بضعف العقل النظري العربى بصفة عامة في تأسيسه لرؤية العالم والواقع والذات والتاريخ والثقافة والجمال والخيال بسبب غياب هذا الجدل الوجودى والمعرفي متعدد السياقات في الواقع الثقافى العربى المعاصر، وقد ترتب على هذا الضعف قلة التأسيس النظري والمعرفي الجدلى في ثقافتنا النقدية المعاصرة، ومن هنا فإننا نود أن نرتقى إلى خلق(( منهج معرفي متعدد الأبعاد لدراسة المجال المعرفي الإسلامي))،وتحبيذ فكرة المجال المعرفي الواسع على فكرة العناصر المتعددة المتجادلة كلٌٌ فى انعزالها المعرفي الخاص بها،وهذا التصور التركيبى البيني التداخلى لتحقيل الحدود المعرفية والاجتماعية والسياسية والجمالية في ربقة منهجية تعددية جدلية دينامية مفتوحة، يقلل كثيرا من عنف المناهج،وسطوتها التجريدية المختزلة التى تجزىء من حيوية الوعى وتناقضاته وتعدداته،وهذا سيخفف كثيرا من الغلظة الفكرية الاحتوائية التى تحاول احتواء الوقائع والظاهرات أوفى محاولة تعليلها أو محاولة تمثلها ووصفها وتفسيرها وتقييمها. ومنهجية التحقيل المعرفي والمنطقى والوجدانى التى نقترحها هنا: ترينا الواقع واللغة والعقل والذات والحقيقة والعالم والثقافة تراكيب حسية دينامية مفتوحة على النسق واللانسق من جهة ،وتصورات افتراضية تخييلية احتمالية ضمن تصورات أخرى ممكنة أيضا من جهة ثانية، معا وفى وقت واحد،فعلى الرغم من أن العالم يموج بالوقائع والحسيات والموجودات غير أن تصور جميع ذلك وإحداث نوع من التعالق المعرفي البينى عبر أنساقها وحدودها وتناقضاتها وتعدداته وشروخها المعرفية والمنطقية، بما يخلق نوعا من التواشجات العلمية والمنهجية المتصادية فيما بينها،هو أمر راجع في النهاية فيما نرى في هذا البحث إلى طبيعة أحاسيس الوعي البشري نفسه،وطبيعة إدراكه اللغوي والمنهجي والإجرائى للعالم المحيط به،إن كل ما في العالم لا يفسر أو يصنف ولا يحمل المعنى والقصد إلا عندما يدرجه الوعي الإنساني نفسه في نسق رمزي علائقى تعددى تداخلى منظومى،يتكون من طبيعة ومنهجية إدراكنا للعالم،ولعل هذا دفعنا في هذا البحث إلى المناداة بوجوب مناقشة المعايير والتصورات المعرفية والمنهجية والإجرائية الكامنة في النظريات الفلسفية والعلمية والتجريبية المعاصرة، مناقشة جدلية مفتوحة على الواقع والحياة، ونخص هنا ضرورة مناقشة منطق معيار التمييز بين العلم واللاعلم،أو بحث الحد المعرفي الفاصل بين الوهم والحق،وبين الموضوعية والانفعالية،أو بين مفهوم العقل ومفهوم الروح أو بين مفهوم العقل ومفهوم الأسطورة أو بين العقل والسلطة،أى مناقشة الحدود الفاصلة والمتداخلة بين حد الوهم وحد الحقيقة،أو حد العلامة وحد الشىء، وهو تصور فلسفي عريض بدأ منذ ولادة العقل الفلسفي القديم منذ اليونان والمصريين بل العالم القديم كله، مرروا بابن رشد والغزالي والفارابى والكندى وابن خلدون وكانت وفرانسيس بيكون وديفيد هيوم وإرنست ماخ،ولودفيج فتجنشتين،وكارناب وأصحاب الوضعية المنطقية والفلسفة التحليلية مثل كارل بوبر ثم دائرة فينا وليس انتهاءا بإمري لاكاتوش وفيرا أبند وتوماس كون ودبليو في كواين وويلارد فا كواين إلى آخر فلاسفة العلم المعاصرين،ولعل في تتبع هذه المقولات المعرفية والفلسفية والمنطقية والمنهجية عبر صراعها العلمي الجهيد لمعرفة المعيار الدقيق الواضح بين حدود العلم وحدود الخيال أو ما يطلق عليه الفلاسفة " حدود الفيزيقا التجريبية والميتافيزيقا الحدسية الافتراضية في الفلسفة الغربية، أو بين العقل الصوفى العرفان والعقل المنطقى التجريبى الاستدلالى لدى لدى الفلاسفة المسلمين ــ لعل في هذا التتبع ما يغني تصورنا العلمى في هذا البحث بخصوص محاولتنا المعرفية في تهديم الحوائط العلمية والمنهجية بين منطق العقل ومنطق الوجدان،ومحو الحدود المنطقية الفاصلة بين طرائق ومنافذ الوعي البشري في نظريات العلم المعاصرة على اختلاف تخصصاتها وإشكالاتها ،وضرورة إعادة بناء مفهوم جديد للعقل يتجاوز المفهوم التجريدي للعقل إلى المفهوم التجسيدي المتصل بين المعرفة والعرفان والتصور والتصوير خاصة بعد دخولنا عصرا معرفيا شبكيا جديدا،تتنافذ فيه مدركات الوعى بعضها إلى بعض،وينسرب بعضها في بعض عبر مدارات التداخل والتبادل والتحاور الجدلى الدينامى من خلال معرفية التصادى المعرفي البيني، والتداخل التركيبى التأسيسى التانقضي، حيث يتم تغيير مفهوم العلاقة – وهو أساس كل علم جديد – تغييرا جذريا نوعيا حتى لتنتقل العلاقة التركيبية لأسس العلم من العلاقة الحدية الصارمة بين مجال علمى وآخر، إلى مفهوم العلاقة النسقية التداخلية الجدلية النشطة فيما يعرف في نظرية المعرفة المعاصرة ((بالعلوم البينية التداخلية بطبيعتيها الرأسية والأفقية معا))،لقد تقاربت المسافات العلمية،وتداخلت التصورات المنطقية،وتلاحمت التداخلات المنهجية، تلاحما مقلقلا ومعقدا بين حدود معرفية وفوق معرفية،أي حدود ما يعرف بالميتافيزيقا والخيال والفرض والحدس، وحدود ما يعرف بالعقل الفيزيقى والمنطقى والمنهجي،ولعلنا نتوقع مستقبليا أن تقدم لنا فلسفة العلم المعاصرة تصورا معرفيا منهجيا جديدا يجمع بين الميتافيزيقا والحدوس والأحلام والعلم التجريبى والمنطقى والعقلاني بوصفها أسسا معرفية تأسيسية لا بوصفها عوالم متناطحة متنافرة خالية من المعنى والدلالة، كما اعتاد تصورها العقل الغربي وبالتبعية العقل العربي (( انظر في ذلك زكى نجيب محمود مثلا في كتابيه (( خرافة الميتافيزيقا والمعقول واللامعقول في تراثنا الفكرى،ود. فؤاد زكريا فى كتابه التفكير العلمي وسائر كتاب العلمانية الرخوة المستقيلة من قوة العقل الجدلى التركيبى الانفتاحي)) ـ بل بوصفها عوالم متجاذبة متداخلة متدرجة تتصادى تكوينيا،وتتداخل تركيبيا وتترامى منهجيا، حتى ليحتقب كل حد علمى بنية الحد العلمى الآخر ولا يكون إلا به عبر نسب رمزية معقدة متعددة من نسب الجدل والتداخل والتعضون المنهجى الجديد ، وهذا المنهج المعرفي الجديد الذى نقترحه في هذا البحث يمثل فيما نرى محاولة معرفية أولية لإعادة بناء مفهوم العقل بين الغزالى وابن رشد عبر بناء فكرة تحقيل وتعدد المجالات المعرفية الإسلامية القائمة على فكرة التأسيسية الحدودية الحوارية بين الحقول المعرفية والجمالية والعقلية والتجريبية بما يدفعها جميعا ومن خلال حوار منهجي تعددى بينى تدرجى إلى خلق منهجية الاستمداد والاستثمار والحوار والتداخل وإعادة خلق التصادى البنيوى التأسيسى بين هذه العلوم جميعا في ربقة معرفية بينية واحدة متجادلة متداخلة من اجل مقاربة التكوثر المعرفي الهائل في بنية الظاهرات والواقع والتاريخ والثقافة بصورة عامة، في نقلة منهجية معرفية تخييلية نوعية تقرن المعرفة بالعرفان والتصور بالتصوير في ربقة تأسيسية واحدة عبر متصل مجازى معرفي عقلى تجريبى تعددى تداخلى.
Posted on: Sat, 07 Sep 2013 09:58:47 +0000

Trending Topics



Recently Viewed Topics




© 2015