كثر في الخطاب السياسيّ التونسيّ - TopicsExpress



          

كثر في الخطاب السياسيّ التونسيّ الإشارة في اعتزاز إلى ريادة تونس في المسألة الدستوريّة. وكثيرا ما يتصدّر "عهدَ الأمان" مشاعرُ الاعتزاز. أنجزنا دراسة تاريخيّة نقديّة في الموضوع ونشرناها في العدد التاسع (الأخير) من مجلّة جامعة ابن رشد بهولندا. ونعرض هنا جزءا قصيرا منها (التوثيق في الأصل): عهد الأمان: قراءة سياقيّة نعتبر "عهد الأمان" سياقا ونصّا المثال الأبرز الذي يجسّد ما أسميناه بفوضى العقل الإصلاحيّ في القرن التاسع عشر. فإذا كان سليمان القانونيّ استحدث من تلقاء نفسه نصّا "دستوريّا" وحضّ الناس على الالتزام بما جاء فيه وإنْ مِنْ خارج السلوك الثقافيّ العامّ للسلطنة العثمانيّة، فإنّ "عهد الأمان"، النسخةَ المُطوَّرةَ من "التنظيمات"، ينقلنا إلى حيثُ انتفاء الوازعيْن الذاتيّ والداخليّ وحضور الضغط الخارجيّ . والراجح أنّ هذا الوجه الثاني من حركة الإصلاح كان صاحبَ الشوكة الأمضى في القرن التاسع عشر. ولذلك يمكن أن نفهم إلى حدّ بعيد لِمَ كانت النتائج محدودة. توجّه القنصل الفرنسيّ ليون روش (Léon Roches) إلى باي تونس محمّد بن حسين (1811- 1859) وقد استقرّت رغبة أوروبّا في "إرضاخ" المملكة للقانون بالقول: "إنّ محبّتي فيك وفي بلادك حملتني على نصحك". وطفق يعدّد له أحكاما جائرة تضرّر منها المتقاضون الذين كان الباي يجلس للفصل في نوازلهم منبّها على خطورة ما يترتّب على الظلم من ردود. وحثّه على تغيير هذا النهج. وبادر الباي بإعلان النيّة لإنشاء مجلس للقضاء يخفّف به سُخط الخارج عليه. ويبدو أنّ هذا الخارج كان يطلب ما فوق ذلك. ووجدنا ابن أبي الضياف يستعمل صيغة لغويّة ينقل بها الانطباع الذي حصل له وهو يرصد ملامح القنصل وهي "تقانع" (وتقانع بذلك). ولا شكّ في أنّها تدلّ على عدم الرضى وإنْ أخفَتْه. والفرق بينها وبين الصيغة "اقتنع" لا يحتاج إلى تفصيل. ولمّا تكلّم القنصل أوجَز دون أنْ ينجح في كتمان ما قرأه فيه ابن أبي الضياف. قال في ما يشبه الأدب الديبلوماسيّ: "نرجو أن يكون هذا كافيا في سكوت الدول عنك" . ولم يأخذ الرجاء مداه في الزمان كما لم يأخذ مشروع الباي حظّه من التطبيق. لم تسكت الدول عن الباي. ولم تحمد له ما عزم على تنفيذه. فقد أسرعتْ إليه ترفض مبادرتَه إلى إنشاء مجلس للقضاء وتطلب منه "دستورا". نقرأ في "الإتحاف" ما يفيد التصميم على أن يستجيب الباي دون إبطاء: "ومن الغد، جاء قنصل الإنقليز..." . وما كاد هذا الغد ينقضي حتّى هبّ إلى المجيء في الغد الثاني قنصل فرنسا: "ومن الغد، جاء قنصل الفرنسيس" . وما نلاحظه في هذا المشهد الجيوسياسيّ هو الحركيّة الديبلوماسيّة التي لا تهدأ والتي يختلط فيها الترغيب بالتهديد والسياسيّ بالفكريّ بما يُنْبئ عن تطوّر سريع في انتزاع كلّ ما يمكن انتزاعه من مكاسب. وقد شدّتنا محاورةٌ بين القنصل الإنجليزيّ ريشارد هود (Richard Wood) وابن أبي الضياف حول علاقة الإصلاحات المزمع إجراؤها بالدين. يخاطب ابنُ أبي الضياف القنصلَ ناقلا مخاوفه باعتباره مسلما: "إنّ هذا الترتيب المطلوب منّا، ربّما يمسّ ديننا" . ويردّ القنصل ردّ العارف بمقاصد الإسلام المُنْبَري مُعلّما أهل الإسلام أصول دينهم: "إنْ أردتَ دينكم الذي كان عليه سلفكم وبه هُدم في ثمانين سنة ما بناه الرومان في ثمانمائة سنة، فهو المطلوب منكم. وإنْ أردتَ تلوين فتاوى الفقهاء على حسَب أغراض الملك، فمعاذ الله أن يكون هذا دينا. وغايةُ المطلوب منكم إجراء أصول دينكم. ويقبح بأمّة أن يغصبها على العمل بدينها أجنبيّ" . ولا يجد ابن أبي الضياف ما به يعلّق إلاّ قوله بينه وبين نفسه: "فأخجلني ولم أجد جوابا" . شدّتنا المحاورة لسبب على الأقلّ وهو الصراحة الفاضحة في الخطابيْن. إنّ الغالبَ عليها هو وعيُ المتناظريْن كليهما بأنّ استحداث "دستور" تونسيّ ليس اختيارا محلّيّا ولا هو ضرورة اقتضاها تطوّرٌ في محصول الفكر السياسيّ والقانونيّ التونسيّ. إنّه من باب الفرض والإلزام. ولذلك استخدم ابن أبي الضياف عبارة "المطلوب منّا"، وكرّرها القنصل الإنجليزيّ: "فهو المطلوب منكم" دون أدنى احتراز. فـ"اللّعب"، على المجاز السياسيّ، نلحظه بأوراق مكشوفة. كان ابن أبي الضياف عارفا بالمنزلة التي هو فيها وكذا كان القنصل الإنجليزيّ. لم يراوغ أحدهما الآخَر. مشكلة ابن أبي الضياف تكمن في توجّس من نوع آخَر: ماذا لو خالفتِ الترتيباتُ المُزمع إجراؤها الدينَ؟ لم ينصرف بالتفكير إلى أصل القضيّة، ولم يتساءل عن آثارها المحتملة إيجابا وسلبا. وكان أبعدَ ما يكون عن تقليب "المطلوب" على أوجهه الثقافيّة والفلسفيّة من أجل المسك بالمعقوليّة التي فيه. ويبدو أنّه لم يتحرّك في هذا الاتّجاه لأنّ العقل الإصلاحيّ التونسيّ مازال لم يدرك بعدُ، لأسباب متعدّدة، القاع العميق للمسألة الدستوريّةَ. ونعتقد بأنّ هذا، من الناحية الموضوعيّة، صحيح. ولذلك تحرّك بما يتحرّك به العقل الإصلاحيّ التقليديّ الذي قاد الإصلاحَ في القرن التاسع عشر. وكان القنصل عالما بذلك، فكان خطابه في الدين وليس في فلسفة الحكم المدنيّ. ولذلك كان يكفي القنصلَ جهدا أنْ يرتفع اللّبس الذي يسكن العقل الإصلاحيّ الدينيّ حتّى تتمّ الاستجابة. ولعلّ المَغنم فاق انتظارات القنصل. فابن أبي الضياف، بالخجل الذي غرق فيه بسبب تفوّق القنصل عليه في المعرفة بالإسلام، سَحبَ الاعتراضَ وفتحَ الباب على مصراعيْه أمام "المطلوب". إنّ مثلَ هذه المعطيات حين تتضافر تستطيع أن تزيل كثيرا من الوهم أو التبجّح الزائد عن الحدّ الذي نجد آثاره في بعض كتاباتنا التونسيّة على وجه الحصر. فليستِ المسألة مسألةَ سبْق تاريخيّ. قد يكون ذلك محمودا لو كان منبعثا من سياق داخليّ وتتويجا لمسيرة في الإصلاح القانونيّ آن الأوان لقطف ثمارها. ولكنّ الذي لا ريبَ فيه هو أنّ شيئا من هذا لا ينطبق على تاريخ الإصلاح السياسيّ/ الدستوريّ إنْ في تونس وإنْ في مركز السلطنة. فاستشراء النزعات العدوانيّة الغربيّة وبدايةُ التحضير للمرحلة الاستعماريّة كانا من وراء كثير من مشاريع "الإصلاح" التي وقع الترويج لها والتغنّي بمزاياها. ولذلك فالمُعوَّل عليه في مثل هذه القضايا هو معرفة ظروف إنتاج النصّ القانونيّ ومضمونه واستتباعاته في الواقع. ومنْ ينظر في ما أنهى به القنصل كلامه حول وجوب تنفيذ "المطلوب" يتأكّد لديْه أنّ هذا الأمر إنْ لم يكنْ طوْعا، كان غصبا. وليس أمام الباي متّسَعٌ من الوقت سوى ما يُمنَح له للتفاوض مع من يريد: "نترك وقتا تتفاوض فيه مع وزرائك ونصحائك، فإنّ المطلوب منك واقع لا محالةَ ولو بعد حين، فافعَلْهُ باختيارك" . ولم تَشذّ رسالة الفرنسيّين عن هذا التهديد. فقد قال قنصلهم: "إنّ المطلوب منك لا بدّ من إتمامه" . ولا شكّ في أنّ تَماثُل الرسالتيْن الإنجليزيّة والفرنسيّة وتزامُنَهما لا يتركان إمكانا لاحتمال الصدفة فيها. إنّهما دليل على التخطيط المشترك بين هذيْن البلديْن لتدشين الحقبة الاستعماريّة وإنْ تحتَ خديعة تحديث الشرق وإخراجه من بربريّته. أظهر الباي الاستعداد لصياغة "عهد الأمان". وينقل ابن أبي الضياف ذلك على النحو التالي: "وتسارع الباي إلى القبول غير مفكّر في معنى ما التزم به" . وتكشف صيغة "تسارع" عن تهافت غير مدروس إلى التلبية قد يؤدّي إلى توريط البلاد في محنة لا قِبَلَ للناس بها. والثابتُ في ضوء ما تقدّم أنّه تسارعَ الباي ليس من باب اللّهفة على الإصلاح حبّا فيه، وإنّما هو السعيُ المحموم إلى درء خطر رآه آتيا لا محالةَ إنْ لم يَخِفّ إلى الاستجابة. وتنفتح المحاورة بتوجّه ابن أبي الضياف إلى الباي قائلا: "يا سيّدي إنّ الأمرَ صعب على ملّتك، فاعرِفْ ما تلتزم به، فإنّك بهذا الأمر تكون يداك هكذا: وقبضتُ يديَّ إلى جَنْبَيَّ" . ويردّ الباي في لهجة الواثق ممّا يفعل المقدّر لحجم النفع المرجوّ: "لأجل نفْع الرعيّة نرجو بأنْ تكون يديّ هكذا". ويعلّق ابن أبي الضياف: "وقبضهما إلى جنبيْه أشدّ من قبضي". ثمّ يقول: "فقلتُ له: هنيئا لك". تكشف المحاورة عن شقّ آخَر من المشكلات التي تنهض في وجه السياسات الإصلاحيّة الدستوريّة. فانتقال الخلاف من مستوى الداخل/الخارج إلى مستوى الداخل/الداخل يشير إلى أنّ أرضيّة الحوار ليستْ قاسما مشتركا. والأهمّ من ذلك هو أنّ العقل الإصلاحيّ الإسلاميّ خرج من المناظرتيْن مهزوما: انهزم في مواجهة قرار الخارج بفرض الإصلاحات. وكان الاستسلام عبر عبارة "الخجل" مدوّيا. وانهزم في مواجهة سلطة الباي التنفيذيّة. وكانت عبارة "هنيئا لك" بمثابة إعلان هذا العقل عجزه عن تأدية دوره. وبهذا ينشأ حِلف مُريب بين الخارج الاستعماريّ والداخل التنفيذيّ المتواطئ لكتابة "عهد الأمان". في نصّ عهد الأمان أحد عشر (11) قاعدة/بندا مدارها في العموم على العدل والمساواة والقضاء والجنديّة والتجارة. ولا نرانا نجادل في قيمتها الحقوقيّة ولا في سندها الحداثيّ أو قوّة مرجعها الغربيّ . ولعلّ الشغوفين بـ"عهد الأمان" إنّما شغفوا به للقيم العليا التي فيه. ففي مادّته الأولى تنصيص صريح على مبدأ حقوقيّ إنسانيّ لا يمكن إلاّ الإشادة به وهو معاملة الدولة رعاياها خارج كلّ تصنيف: "تأكيد الأمان لسائر رعيّتنا وسكّان إيالتنا على اختلاف الأديان والألسنة والألوان في أبدانهم المكرّمة". وتلتزم الدولة في المادّة الرابعة بـأنّ "الذمّيّ... لا يُجبَر على تبديل دينه ولا يُمنع من إجراء ما يلزم ديانته". ولا غرابة في أن تكون الحقوق المنصوص عليها ههنا مستوحاة من التجربة الفرنسيّة إنْ في "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" (déclaration des droits de l’homme et du citoyen) أو في دستور 03 سبتمبر 1791. وكلّ هذا مهمّ. ولا اعتراض عليه. وقد يصلح من الناحية التاريخيّة لإبراز بعض المكاسب النصّيّة في مجال الحقوق والحرّيات. غير أنّ هذا لا يغرينا كثيرا من وجهة نظر موضوعيّة. فحين لا يكون النصّ استجابة لتطوّر حقيقيّ في الحراك الاجتماعيّ والسياسيّ والثقافيّ يفقد أصالته. وهذا تقريبا واقع الحال في القرن التاسع عشر. كان قرن الإصلاحات "الكبرى" في مجال التشريع. ولكنّ "الرجل المريض" كان مشرفا على الهلاك. فلم ينتفع بها. وِجْهتنا إذن ليستْ احتفاليّة أو نظريّة. ولذلك لم نشغل أنفسنا إلاّ بالنصّ وسياقه. والسياق عندنا أهمّ من النصّ لأنّنا نعتقد بأنّ نهضة الأمم تتمّ في سياق جدليّ بين الوعي بالتخلّف من جهة والتوق إلى الرقيّ من جهة ثانية. وإنّما تأتي التشريعات لاحقةً الوعيَ لا متقدّمة عليه. ولهذا، نذهبَ إلى أنّ الواقف من خلْف "عهد الأمان" المصالح الأوروبّيّة وليس العقل الإصلاحيّ التونسيّ. والمدقّق في قواعد "عهد الأمان" يرى أمريْن لافتيْن: الأمر الأوّل هو أنّه من مجموع القواعد ثمّةَ سبعٌ (7) تحضر فيها حضورا مباشرا الجالياتُ الأوروبّيّة تحت أكثر من مسمّى في سياق تمتيعها بحقوق وحرّيات لم تكن لها. والأمر الثاني هو أنّ أربعَ (4) قواعدَ من المجموع، على قلّته، مخصّصة للتجارة ونحوها في سياق تيسير ممارستها من طرف تلك الجاليات. ودون الذهاب بعيدا في الاستنتاج نكتفي بالإلماع إلى أنّ "عهد الأمان" كان رغم ما أحيط به من تبجيل وإطراء أوّلَ نصّ شرّع بالقانون للتدخّل الأجنبيّ وحمى بالقانون أيضا سيطرة المال الرأسماليّ على السوق الوطنيّة. ما نخلص إليه هو أنّ الجهد الإصلاحيّ في القرن التاسع لم يكن في كثير من مراحله ومطالبه بسبب الوعي بضرورته. فقد كانت جغرافيّة السلطنة العثمانيّة في مجاليْها الترابيّ والسكّانيّ واقعة تحت ضغوط شديدة من أوروبّا. وكانت الأزمة مستفحلة عَزّ فيها العلاجُ لأسباب متعدّدة: ترهّلٌ في الأداء السياسيّ، وعجز عن استحداث بدائل نوعيّة، وانفصال حادّ بين النخبة الفكريّة والمجتمع من جهة وبين شقّ حداثيّ في النخبة، وشقّ تقليديّ فيها من جهة أخرى، وتسرّع الحاكم في تنفيذ ما يُملى عليه... ولهذا كلّه ذهبنا إلى أنّ النصوص والمراسيم التشريعيّة لم تكن نَبْتا أصيلا. كانت جزءا من مشروع أوروبّي للحفاظ على المصالح في زمن تحرّكتْ فيها السلطنة نحو الانحدار والانقراض.
Posted on: Thu, 22 Aug 2013 11:58:02 +0000

Trending Topics



Recently Viewed Topics




© 2015